الراديكاليّة «الرمادية» ومآزق «الإسلاموفوبيا»

الراديكاليّة «الرمادية» ومآزق «الإسلاموفوبيا»

فهد سليمان الشقيران

جريدة “الشرق الأوسط” 9 يونيو 2016

 

من الممتنع نظريًا انتظار المفاهيم المدنيّة لتخرج من عباءات الراديكاليّين، هذا مثل التحديق بالقبّعة بانتظار أن يقفز منها أرنب. فالفكر الراديكالي لديه القدرة والطاقة على تجديد ألوانه، ورسم فضاءات أخرى متنوّعة تجعله على قيد الحياة. ولأن التنظيمات الراديكاليّة على درجاتٍ ومستويات حول العمل في الواقع ومستوى استعمال العنف، فإن التصعيد الذي قامت به «داعش» جعل بقية التنظيمات الأخرى ذات البعد السياسي البراغماتي تمارس نوعًا من التلوين على خطابها. الاستنجاد بالعلمنة، أو الأسس الليبرالية، أو الفضاءات المدنيّة مجرّد دعاية ذكيّة. لا يمكن لتلك التيارات أن تقوم بإجراءات إصلاحية في أحزابها وهي تحرس «المتخيّل عن المدنية» المفهوم الجامع بين الأحزاب الشمولية، والذي رصده أوليفيه روا، المتخيّل الكارثي الذي لا يمكن أن تقضي عليه ببضعة ألفاظٍ مدنيّة.

 

في الرابع من يونيو (حزيران) كتب ديفيد إغناتيوس مقالة بعنوان: «داعش يغذي الإسلاموفوبيا الغربية»، ينقل عن مؤسسة لابيس للاتصالات، وهي من المؤسسات الاستشارية في منطقة الشرق الأوسط وتعمل مع كينينغ وغيره من خبراء الاستراتيجية، في ورقة بحثية صدرت عنها مؤخرًا، لماذا يساعد «الإرهاب الإسلامي» المتطرفين، إنه «بدلاً من تقليص جهود التجنيد، فإنه يزيد من قيمة علامة الإرهاب التجارية بين جموع المسلمين، إننا نتعامل بالأساس مع عقلية المراهقين»، كما تؤكد المؤسسة نقلاً عن الإحصاءات أن 90 في المائة من المتطرفين لا تزيد أعمارهم عن 25 سنة. وهذه الزمرة من الشباب المتطرف المسلح تريد أن ترى العالم بأسره من خلال لونين فقط: الأبيض والأسود. والترياق الوحيد، كما تقول المؤسسة: «هو اللون الرمادي من الحلول الوسط الاجتماعية والتسامح».

 

طرح فكرة ترياق «الحل الرمادي» بوصفها الحل لانتشال الإسلام من قبضة «داعش»، قد تنعش مجموعة أخرى من النسخ الخطيرة على المدنيّة في أوروبا والعالم، فأكثر الجماعات رماديّة هي أكثرها تدميرًا، وجماعة الإخوان المسلمين التي أثار فصيلها التونسي «حزب النهضة» جدلاً في الأسبوعين الماضيين استطاعت منذ تأسيسها استعمال الصيغ المدنية، والأفكار الديمقراطية، والأدوات الانتخابية من أجل احتلال الواقع، والسيطرة على المجال العام. من الخطأ المراهنة على المسافة الرماديّة الكارثية بين الأبيض والأسود، والتعويل على هياكل لفظية تطلق بين فترة وأخرى هو استسلام أمام جحافل التطرّف.

 

مشكلة الحركة الإسلامية وعلاقاتها مع الصيغ المدنيّة تتمدد، والبحث في الأدوية والأمصال والترياق الناجح مستمر، وفي «منتدى العلاقات العربية والدولية» في الدوحة، عقدت ندوة حول هذا الموضوع خلال الفترة من 27 إلى 28 أبريل (نيسان) 2016. محمد الأرناؤوط لخّص ستًا وعشرين ورقة طرحت حول «الإسلاموفوبيا بين المتخيّل والواقع» وخلاصتها: «إن الأوراق التي تناولت الحالات الإسلاموفوبية الموجودة في ألمانيا والنمسا والسويد وهولندا وبلجيكا وإيطاليا وألبانيا واليونان وغيرها تؤكد ذلك أكثر وأكثر، بل إنها توضح أن الإسلاموفوبيا لم تعد يعبر عن قلق غير المسلمين من المسلمين بل أصبحت حاضرًا حتى في الدول الأوروبية التي تتميز بأعلى نسبة من المسلمين مثل كوسوفو».

 

بالطبع، تضمنت بعض الأوراق التعبير عن اتجاهات أصحابها المدافعة عن الإسلام الحركي في أوروبا، غير أن الأهم تثبيت كون الرهاب من الإسلام في أوروبا سببته الحركات العنيفة والتفجيرات المتسلسلة في لندن ومدريد وباريس وبروكسل وغيرها. نفس اللون الرمادي الذي نقل إغناتيوس بأنه ربما يكون حلاً نافعًا، دافع بعض المنتمين إليه في المنتدى المشار إليه عن تلك الحجج، مستدلين على وجود «إسلاموفوبيا» حتى في بلدانٍ أغلبيتها من المسلمين. بينما مشكلة الراديكاليّة بألوانها المتطرّفة أو الرمادية أنها تعادي الواقع، وترفض الغيرية، وتحتكر المجال العام، وتبني الحركة في الواقع على أسسٍ ليست دنيوية.

 

الدول الأوروبية حتى وإن راهنتْ على «الإسلام الرمادي» (الإخواني) فإنها تحاول إدماج حزب شمولي معطوب في تواصليته لغرض إشراكه بالحرب على «داعش»، وهذه ذروة الفشل والإخفاق، وبالعودة إلى مبحثٍ مهم لنيكولاس آدمز في كتابه: «هابرماس واللاهوت» (طبع بالعربية يناير/ كانون الثاني 2016) يخصص فصلاً غنيًا عن «الدين في المجال العام»، وبه ينقل اعتبارات هابرماس بأن المنبر العلماني فقط هو من يستطيع تنظيم تنوّع الفضاءات المقدّسة، والمجال العام هو ميدان الجدالات العامة، لتجتمع فيه الأديان المختلفة بعضها مع البعض، فالتيارات «الدينية» تحاول منذ العصور الوسطى تأسيس هويّة بين «الفكر، والعالم» بغية خلق تطابقٍ تام، وهذا أمر مستحيل منذ ظهور كتاب «كانط» (نقد العقل المحض 1781)، ثم يعلّق آدمز على رأي هابرماس ذلك بأنه، و«لكي يفهم المرء ما يقوله هابرماس حول الدين، فإنه يحتاج إلى تفسير كتاباته في سياق نقاشاته حول العقلنة والعلمنة، والنقاش العام».

 

ببساطة، فإن الراديكاليّة والإرهاب هما تعبير عن «خلل تواصلي»، وبمعنى آخر، فالإرهاب شجرته واحدة، ولا يمكنك التعويل على غصن الشجرة ليستأصل الجذع. والمجتمعات الإسلامية أمام تحدياتٍ كبرى، ومن دون التغيير الجذري لمركزية الرؤية الإسلامية للغرب، وتنزيه الذات من دمامات الكمال الواهم.. إن الرهاب من الإسلام صنيعة الإرهاب، ولله في خلقه شؤون.