شهود على سنين الانعزال

شهود على سنين الانعزال

فهد بن سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 25 أغسطس 2016

 

«سوريا هي الحلبة التي تتواجه فيها كل القوى بعضها ضد بعض ويكون لذلك عقابيل جيدة أو سيئة في كل أنحاء العالم».. بهذا الاقتباس من المؤرخ توينبي يقدم الاستهلال «شارلز هل» العضو الرفيع بمعهد هوفر لكتاب فؤاد عجمي «التمرّد السوري».

 

صورة عمران وإيلان الكردي، والفوضى الدبلوماسية التي ضارعت الحدث جعلتْه ميدان المتحدثين والمفكرين الكبار في الولايات المتحدة منذ بدئه وحتى اليوم. عجمي انتقد حتى تعب إدارة أوباما باعتبارها «الميؤوس منها»، فمن دون دور أميركي لا يوجد مجتمع دولي، والإضراب عن التدخل في الأزمات التي تعصف بالعالم تهدد النظام العالمي نفسه، استطاع أوباما «الساحر (هوديني)» – بوصف عجمي – إقناع المجتمع الأميركي بالتعب، ولم يتدخل إلا على مضض في ليبيا، لكنه «التدخّل من الخلف» يقول أوباما. بينما المذبحة السورية ليس لها مثيل على الإطلاق منذ مذابح رواندا وكمبوديا ومجزرة سربرنيتسا، ليس دور أميركا أن تكون شرطي العالم، بل أن تقوم بدورها في الحفاظ على النظام العالمي، وهذا لا يتحقق بالانعزاليّة، لقد صغّر أوباما دور أميركا، والكارثة كانت بإرسال الأخضر الإبراهيمي «البعثي القادم من طبقة سياسية غير ناجحة» تلك كانت خلاصة صيحة عجمي المدوية منذ بدء الأزمة السورية وحتى رحيله يائسًا مغتاظًا من الانعزالية الكارثية.

 

على الضفّة الأخرى يأتي خبير آخر مرموق مثل «والي نصر» ليطرح سفرًا باذخًا بعنوان: «الأمة التي يمكن الاستغناء عنها» (العنوان يدحض به جملة لبيل كلينتون استعادها أوباما «أميركا الأمة التي لا يمكن الاستغناء عنها») وليضع شهادته خلال عمله مستشارًا لريتشارد هولبروك في مكتب البعثة الخاصة لأفغانستان وباكستان المعروفة باسم SRAP خصص له طابق بالخارجية الأميركية، يتحدّث نصر مقدّمًا رأيه ورأي هولبروك «عرّاب اتفاقية دايتون» حول إدارة أوباما لملف انسحاب العراق، وموضوع أفغانستان وباكستان وطالبان، وتقييم الموقف الأميركي الذي اتخذ بشتى الدول، ثم يقدّم دروسًا مستفيضة من مجازر البلقان والأدوار الخارقة التي قام بها هولبروك مقارنًا بينها وبين ما يشبه الخضوع أمام الأزمات في العالم وبخاصة بما يتعلق بالحوار مع إيران الذي بدا وكأنه يحمل شكل الخضوع، لكن أوباما لم يلتقِ رئيس البعثة هولبروك بشكلٍ منفردٍ على الإطلاق، كما لم يمنحه ما يلزم من وقته، وهذا يذكّرنا بنكتة فؤاد عجمي أن «كاتب خطابات صغير مثل بنجامين رودز» أهم لدى أوباما من مستشار قومي كبير مثل بريجنسكي.

 

أطروحات والي نصر وفؤاد عجمي وهولبروك كلها تنعى القوة الأميركية التي كانت تخيف المعتدين على السلم الأهلي في كل أنحاء العالم، كانت الحروب التي تصنع السلام هي الأقدر على تحقيق التسويات والتوازنات في النزاعات المسلحة ذات الطابع العرقي أو الديكتاتوري. في أيام البلقان – يورد والي نصر: «تعمد هولبروك إيصال التهديد بالقوة الأميركية للزعيم الصربي المعاند ميلوزوفيتش؛ في أحد الاجتماعات المحبطة خرج هولبروك وانفرد بمستشاره العسكري وطلب منه إرسال قاذفات (بي 52) الثقيلة إلى إحدى القواعد الجوية في بريطانيا وأن يحرص على جعل محطة (سي إن إن) تنقل صور هبوط هذه القاصفات، كانت النتيجة أن حرب البوسنة قد توقفت بعد هذه الحادثة بوقتٍ قصير»، آمن هولبروك في كل الملفات التي تولاها أن القوّة العسكرية الجاهزة دائمًا أهم مما تحويه الجعبة الدبلوماسية، وبهذه الطريقة انتهت حرب فيتنام «لقد استعرت هذه الحروب على مدى عقود، لكنها انتهت واقعيًا على طاولات النقاش». يعزو والي نصر الفشل الدبلوماسي الأميركي في ملفات المنطقة بالإضافة إلى باكستان وأفغانستان لإحالة أوباما ملفات السياسة الخارجية للبنتاغون والسي آي إيه: «ولولا العناد الذي تتحلى به هيلاري والقدرة على فرض شخصيتها لانحدرت الأمور إلى أن تفقد الخارجية أي تأثير لها على الإطلاق. لقد تولى البيت الأبيض معظم الملفات الخارجية، الملف الإيراني والقضايا العربية والإسرائيلية، كلها تدار من البيت الأبيض ولكن الشأن الباكستاني والأفغاني كانا استثناء بسبب سرعة هولبروك في تشكيل بعثة SRAP.

 

كل ذلك يطّرد ويتفق مع شكوى عجمي – في حوارٍ تلفزيوني معه – من الوزير كيري الذي يعتبره مجرد موظف في البيت الأبيض بل لا يستطيع أن يؤسس فكرة لسوريا، ولطالما كال الوزير الثناء لبشار الأسد، تلك كانت ذروة مسببات شعور عجمي باليأس من الخلاص للثورة السورية.

 

الصور تتشابه مع اختلاف الملفات من باكستان وأفغانستان إلى إيران والعراق وصولاً إلى سوريا.

 

شكّلت إمكانية الانسحاب الأميركي من قضايا المنطقة جدلاً واسعًا، هيلاري كلينتون تنافح في مقالة لها في «فورن بوليسي» عن كون الولايات المتحدة يجب أن تتخذ من آسيا اهتمامًا لها بدلاً من الشرق الأوسط، لكن والي نصر والذي عمل معها يرد على هذا الترويج الكارثي والتبديد لمصالح أميركا القومية بالمنطقة. بالنسبة إليه: «إن كنا كأميركيين نرى أن قيادة العالم قد بدأت تفلت من قبضتنا، فإن ذلك ليس عائدًا إلى الخمول الاقتصادي الذي نعاني منه خلال السنوات الأربع الماضية، وإنما سيكون بسبب عدم يقيننا من حقيقة دورنا العالمي في قضايا الكوكب البارزة، لقد دأبت الولايات المتحدة على سلوك مسلك عسكري واتخاذ مقاربة عسكرية في مفاصل سياستها الخارجية الأمر الذي حطّم سمعتنا عند الحلفاء والأصدقاء على حدٍ سواء، والآن أضفت ملامح التضارب والتناقض في طريقتنا لملاحقة مصالحنا الشكوك حول جدارتنا بقيادة العالم»، بينما في أطروحات عجمي نرى نفس الرأي، ذلك أن تخلّي الولايات المتحدة عن الكويت أو البوسنة أو كوسوفو أو أفغانستان والعراق كان سيخلق كارثة. لقد كانت موجة الرأي الأميركي في عهد روزفلت ضد التدخل في الحرب العالمية الثانية لكنه تدخّل وكان قرارًا حاسمًا أثبت جدواه، لكنه يتعجب من ضخّ مفهوم «التعب» لدى المجتمع الأميركي في العهد الأوبامي الموشك على الانتهاء.

 

أولئك خبروا المعلومات الدقيقة لمراحل كانوا ضمنها ومن صميمها ولم يدّعوها، إذ يتحتم على الرؤية الاستراتيجية، والتحليل السياسي، امتلاك معلومات استخباراتية كافية، وهذا ما يندر ويشحّ عربيًا.

 

لقد عرفت المجتمعات العربية والإسلامية الولايات المتحدة بوصفها مساعدة ومساندة منضوية بمصالح مشتركة عميقة، غير أن انسحابها سيؤدي بالمنطقة إلى تجمّع دول شحيحة ثقافيًا ومعنويًا ومافيوية، وليست لديها مصالح شاملة مشتركة مع العرب والمسلمين، ولا تحمل حضاراتٍ حيّة يمكن نشرها بالمعنى الذي تحمله الحضارة الغربية بذروة تجليها بالولايات المتحدة، كما أن القيم الأميركية هي قيم العصر وهي «سستامه» ونظامه.

 

قد تكون الظروف المقبلة أكثر ضراوة مع التغييرات الكبرى وتغيّر الأحلاف، وانتهاء صلاحية بعضها أو قربها من ذلك، أما حين يسود السلوك الانعزالي على السياسة الأميركية المقبلة، وتجاهل ضرورات التدخل، فستأخذ المنطقة طريقها نحو الاضطراب المضاعف. فرق كبير بين القيم التي تحملها الأمة الأميركية العظمى مقارنة بالأخرى الروسية أو الصينية وسواهما من الدمامات التاريخية، إنهم خارج سياق التطلّع أو التشوّف الاجتماعي بالعالم العربي والإسلامي.

 

قبل ردحٍ من السنين قال الفيلسوف بودريار: «أميركا عالم مثالي متكامل، إنها مثل امرأة لا مثيل لها، إنها بلدة سينمائية، إنها نهاية العالم.. إنها الكارثة.. إنها دمار المعنى واختفاؤه».