الحضور الفني بالعمل الدبلوماسي

الحضور الفني بالعمل الدبلوماسي

فهد بن سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 8 سبتمبر 2016

 

في عام 1985 زار الملك فهد بن عبدالعزيز الولايات المتحدة للمرة الأولى بعد توليه للحكم، كان الاستقبال حاشداً. وحدث أن ألقى الرئيس الأميركي ريغان كلمته بعشاءٍ تكريمي للملك بالبيت الأبيض، ولأن الخطاب تضمّن مستوى بعيداً وصعباً من الحثّ على ترتيب العلاقة بين العرب وإسرائيل، فقد قرر الملك أن لا يرد على ريغان، وأن لا يلقي كلمته الجاهزة بين يديه بل ارتجل حديثاً استمر نصف ساعة عن الرياضة في السعودية فالمنتخب حينها له جولاته بحصد البطولات. كان خطاباً ذكياً سار بالمناسبة إلى برّ الأمان، إذ كان الاصطدام وارداً في تلك اللحظات بسبب اختلاف المواقف حول مبادرة السلام التي طرحها الملك آنذاك. بعد العشاء صحب الملك ريغان إلى قاعة أخرى فيها فرقة موسيقية وعلى المسرح فتاة تغني الـ”أوبرا” بصوتٍ صافٍ وكان هائماً جذلاً وهو يستمع للعمل الفني البديع.

 

تلعب الفنون بأنواعها أدوارها السياسية والديبلوماسية.

 

في زيارته للصين أهدى الأمير محمد بن سلمان لوحة “طريق الحرير” الفنّية من إبداع الفنان أحمد ماطر للرئيس الصيني٬ كانت رسالة ديبلوماسية بليغة لأمة الصين. والأمير سعود الفيصل استثمر ديبلوماسياً قصة تعلق كوندليزا رايس بالموسيقى والسينما٬ ونجح في تتبع ذوقها٬ وأهداها بضع اسطوانات في إحدى المناسبات٬ السمراء الأنيقة التي درست الفرنسية وتعلمت “الإتيكيت” هي أيضاً عازفة بيانو جيدة٬ لديها تعلق شديد بموتزارت منذ الصغر٬ تقول: “عزف الموسيقى في الغرفة المخصصة للعزف يساعد كثيراً على الاسترخاء على الرغم من أن الأمر ليس سهلاً عندما تعزف مقطوعات لمشاهير الموسيقيين… وعندما أعزف أشعر بأنني بعيدة عن نفسي٬ أشعر بأنني كنز … أعشق برامز لأن موسيقى برامز متينة البنيان٬ وتعبر عن مشاعر عميقة دون إغراق. لا أحب الموسيقى المغرقة في المشاعر٬ وبالتالي لا أميل لموسيقى مثل موسيقى ليست٬ ولا أعبأ في الواقع كثيرا بالموسيقيين الرومانسيين الروس مثل تشايكوفسكي ورخمانينوف٬ حيث التركيز على غلاف الأسطوانة أكثر من المحتوى. موسيقى برامز متقنة وتبقي على حالة من التوتر لا تنتهي“.

 

ديبلوماسية الفنون حضرت بأحاديث وزير الثقافة والإعلام عادل الطريفي٬ الذي تحدّث من طوكيو عن الموسيقى وأكاديمية الفنون الملكية٬ والتقدم الموسيقي في اليابان٬ وهو يحاورهم قال: “أنا من محبي الموسيقى الكلاسيكية وأوبرا “برامز” هي ربما أفضل مَؤلَّفة موسيقية على الإطلاق٬ وأنا أستمع إليهم جميعا٬ لكن كونشرتو البيانو رقم 2 هو العمل الموسيقي المفضل بالنسبة إلي٬ خاصة حين أعاد تقديمه المؤلف الموسيقي النمساوي كارايان في ستينات القرن الماضي٬ وأعتقد أنه يحظى بشهرة واسعة في اليابان٬ وأود أن أشاهد يوماً ما شاباً سعودياً يمكنه العزف على آلة (التشيلو) على الصعيد العالمي٬ كما الفنان الشهير يويو ما“.

 

تعبّد الصيغ الفنية ما تعجز عنه السياسة٬ بل وتؤسس لمشاريع سياسية مشتركة٬ التقارب الإيراني الأميركي الأخير بدأ من أحاديث فنية٬ ففي أواخر عام 2009 شهدت “لاهاي” مؤتمراً حول أفغانستان حضره الديبلوماسي الأميركي ريتشارد هولبروك ومستشاره والي نصر٬ خلال الاستراحة وبينما كان كل المشاركين يتحلّقون حول القهوة والأطعمة البسيطة٬ توجه هولبروك إلى رئيس الوفد الإيراني مهدي أخوند زاده وكان حينها نائباً لوزير الخارجية وتحدّث معه طوال مدة الاستراحة فقط عن معرض زاره حول الفنون الآسيوية مبدياً إعجابه ببعض المعروضات الإيرانية التي تعود إلى عصر المملكة الصفوية الإيرانية٬ واكتفى مهدي زاده بالابتسامة وإيماءات الرضا٬ اتضح حينها لدى مساعدي هولبروك أن إدارة أوباما قد عزمت على المفاوضات الجادة مع إيران.

 

في كتاب “تاريخ الدبلوماسية” المهم لـجريمي بلاك٬ أورد تاريخ ارتباط الفنون بالعمل الدبلوماسي وبالفصل المخصص للقرن السابع عشر٬ يذكر كيف: “أدى الفن دوراً كبيراً للسياسة٬ فقد اشترى مبعوث إمارة هيس  كاسل في لندن رسوماً لأميرها في منتصف القرن الثامن عشر٬ وكذلك تلسكوب جيب صغير٬ واستخدمت كاترين العظمى ملكة روسيا دبلوماسييها لاقتناء أعماٍل فنية٬ أبرزها مجموعة هاوتون من بريطانيا٬ وكان من المتوقع أيضاً من الدبلوماسيين شراء أعمال فنية لأفراد بارزين غير صاحب السيادة”. ثم يضرب مثلاً بدور “بيتر بول روبنز” الرسام الشهير في تنقية الأجواء السياسية في العلاقات الإنجليزية٬ الإسبانية٬ وذلك في أوائل القرن السابع عشر٬ حيث أدى الفنان دوراً دبلوماسياً بارعاً.

 

للفنون والثقافات دورها في تذويب الرؤى الصلبة في العمل السياسي. والديبلوماسية المحتمية بالفنون والمتسلحة بالثقافة تستطيع اختراق المجتمعات وسَحْر القادة٬ وهي بذلك تبدي احتراماً للبلدان والأمم والشعوب٬ ذلك أن كسب التحالفات مع الدول والقوى لا يكون من دون إبداء الوعي بالمجتمع المراد زيارته أو التواصل معه٬ فلكل مجتمع تاريخه ورموزه وأساطيره٬ والساسة الكبار يقضون وقتاً يتحدّثون به مع ساسة آخرين خارج الموضوع السياسي. هنا يدخل الفن مؤدياً دوراً ديبلوماسياً يفكك من خلاله المستغلقات٬ ويحسّن من إمكانات التفاوض؛ وعلى حد تعبير جريمي بلاك في كتابه آنف الذكر: “الديبلوماسية هي لعبة ترتكز على صناعة التحالفات٬ وهي جزء من لعبة الحرب٬ أو على الأقل لعبة استخدام القوة٬ والتفاوض يضاعف القوة٬ وليس أداة لتجنب الصراع“.