من “الأمة” إلى “القوميّة” …جهاد مابعد القاعدة

من “الأمة” إلى “القوميّة” …جهاد مابعد القاعدة

فهد سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 20 أكتوبر 2016

 

 

 

استثمرت «القاعدة» في الثلث الأخير من القرن العشرين الأوعية المنجزة حداثيًا وعولميًا، واستطاعت أن تتلبّس الأنماط المعاصرة بغية الوصول إلى الأهداف ومن ثم التجنيد والاستهداف. تحوّلت «القاعدة» إلى شركة عابرة للقارات والحدود مثل مطاعم الوجبات السريعة ضمن إدارة مركزية واحدة. كانت تحاكي سلوك الحداثة، حيث «التغيير العام»، و«إقناع الآخرين» بالمشروع المتثمّل في ضرورة مقاومة «الصليبيين» واستثمار المتعلّمين لتجنيدهم. السجال الفقهي طغى على الكوادر القاعدية، الأهداف المثاليّة مثل «إخراج المشركين من جزيرة العرب» وصولاً إلى تدمير مصالح الولايات المتحدة، واقتياد عدد من الطائرات فوق سماء مانهاتن لتفجير برجين. «القاعدة» نمط معولم أكثر سكونًا تنتظمه مركزية إدارية في معظم الأوقات. مقارنات الحداثة وأوعيتها كلاسيكيًا استثمرت إرهابيًا من خلال توجيه الطفرات العلمية الحرة وتوظيفها ارتجاعيًا لصالح ثقافة الاستئصال. مفاهيم مثل التواصل، والتقنية، ونشر المعلومة، والحوار، ونشر الأفكار، كلها جاءت ضمن سياق حداثي، لكنها استثمرت قاعديًا وجعلت من تاريخها الماضي نمطًا للإرهاب الكلاسيكي المبرمج، حيث بقيت لعقود تقوم بعمليةٍ واحدة بمعدل كل سنتين، تلك هي «القاعدة».

«داعش» منذ دخوله الموصل في يونيو (حزيران) 2014 وهو يطرح نموذجًا بديلاً للتعامل مع حركة وإيقاع العالم. استولى بعد الموصل على أجزاء من حلب نحو الصحراء السورية وعلى محافظتي الأنبار ونينوى في العراق. عودة «داعش» إلى العراق بقوة توّجت من قبل بالاستيلاء على مدن كبرى في سوريا محاولاً تحطيم الحدود الفاصلة بين البلدين. استخدم تكتيكًا أطلق عليه «كسر الحدود» ونجح في استثمار العلاقة المتدهورة بين الحكومة المركزية والجماعة السنيّة. أراد «داعش» خلق «نهايات الجغرافيا» يزحف على أرضها، وبذلك تكوين قوميّات منفصلة تدين بالولاء له، واستثمر غضب مجاميع سنية من المصير المقبل، وهرعت إليه هربًا من «جبهة النصرة» ليثبت من بعد أن «داعش» أحدث الصرعات الإرهابية ليست امتدادًا جوهريًا لتنظيم القاعدة، بل هي خروج عليه. «داعش» هي حركة جهاد ما بعد «القاعدة».. جهاد ما بعد العولمة، وما هو أبعد من الحداثة البعدية، فهي: تعتمد على الهوامش، تحارب المراكز، الجغرافيا منتهية، صيغ العولمة باتت قديمة، تعيش في تجنيدها على الألعاب الإلكترونية، والـ«سوشيال ميديا»، وتهتم بالمنتج البصري أكثر من البحثي، سينمائية في عرضها وتحشيدها، تعتمد «الأزياء» الخاصة بها، لا داعي للمزيد من العلم الشرعي، التطبيع مع عوام المسلمين، المعرفة بالدين ليست أساسية، الدولة أهم من الشريعة، نقد إرهاب «القاعدة» باعتباره إرهابًا قديمًا. بين «القاعدة» و«داعش» كانت قنطرة التحوّل والتجاوز من خلال أبي مصعب الزرقاوي الحلقة الفاصلة بين الكلاسيكية الإرهابية، والموجة الداعشية الصاعدة. «القاعدة» استثمرت مناخًا كلاسيكيًا قديمًا، «داعش» تعيش صيغ التقنية بأعتى الأساليب، تعتمد على الفئات الاجتماعية أكثر من اعتمادها على المجتمع الكلي، لا تحتاج إلى تدريب أشخاص لسنوات من أجل قيادة طائرة واستهداف أبراج، بل يجيء الإرهابي السريع الأكثر رخصًا في التجنيد والقتل، «الذئب المنفرد» يهجم على مدينته التي يسكنها من أجل الخليفة البغدادي، هنا يتحوّل الإرهاب من مسار واحد يتبعه الجميع، إلى «دروب متعددة».. «داعش» تمارس تقويض «القاعدة» وتضربها بمطرقة باعتبارها تحمل عوائق أخلاقية لا تريدها «داعش» ولا تعتبرها شرطًا، هذه صرعة إرهاب ما بعد كلاسيكي، إنه يستثمر حتى الأعراق في بناء النظرية.

الحروب في سوريا والعراق، وبخاصة بعد حرب الموصل ستجعل العمل الإرهابي أعم من الهدف الديني، تتحوّل الحركة إلى وسيلة نصر قومي كما فعلت «طالبان»، «القاعدة» لم تتخذ مواقف مذهبيّة صارمة. بالنسبة إليها العالم فسطاطان؛ كفر وإسلام، لكن الشيعة مثلاً لم يكونوا هاجسًا لدى بن لادن، وإن كانوا كذلك لدى الزرقاوي، لكن لدى «داعش» ألف فسطاطٍ للحرب، تحتل تصفية الأقليات أولويّة. «داعش» ستستثمر المعاني القوميّة، تطرح نفسها بوصفها «قوميّة بديلة». يطرح الدكتور طلال أسد في كتابه الحديث: «تشكيلات العلمانية» سؤالاً: هل ينبغي أن ينظر إلى الإسلام السياسي بوصفه قوميّة، يقارب ذلك: «دعونا نسلّم بأن القوميّة علمانيّة الجوهر، بمعنى أنها تضرب بجذورٍ عميقةٍ في التاريخ والمجتمع الإنساني، والسؤال الذي يطرح نفسه أمامنا الآن هو: هل بإمكاننا الآن أن نجادل من الاتجاه المعاكس بالقول إن بعض الحركات التي بدأت دينية ينبغي أن ينظر إليها بوصفها حركات مناصرة للقومية، وبوصفها في الواقع تعدّ كذلك حركات علمانية؟ وقد تبنّى هذا الجدال الكثير من المراقبين للإسلام السياسي». ثم يضيف أن هذه الظاهرة هي «استمرار للسردية المألوفة حول قوميّة العالم الثالث».

شكّل تفجير البرجين إعلانًا عن نهايات كثيرة تتعلق بالعولمة والحداثة وصيغ الاقتصاد وأسس الصراع الحضاري والديني، ولكنه قبل ذلك أعلن عن نهاية أنماط الإرهاب القديمة، لتدلف المجتمعات أمام إرهاب ما بعد عولمي، جهاد متشعّب بدروب كثيرة ضمن كسر للجغرافيا وإنهاء للمسار الإرهابي الواحد، وهذا ما يجعل تنظيم داعش أخطر الظواهر الإرهابية على الإطلاق بحيث يصعب القضاء عليها ضمن الاستراتيجيات المحدودة المطروحة. كتبت حنة أرندت في كتابها «أسس التوتاليتارية» عن الإرهاب بشكله الكلّي العام: «إنه الذي يجعل الناس يسحق بعضهم بعضًا».